فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضَ شَرُّ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَأَشَدُّهُمْ بَلَاءً عَلَيْهَا، وَتَفْرِيقًا لِكَلِمَتِهَا، وَقَدْ سَكَنَتْ رِيَاحُ التَّفْرِيقِ الَّتِي أَثَارَهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفِرَقِ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ رِيحُهُمْ عَاصِفَةٌ وَحْدَهَا، فَهَؤُلَاءِ الْإِبَاضِيَّةُ لَا يَزَالُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ وَإِمَارَةٌ، وَلَا نَرَاهُمْ يُثِيرُونَ بِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ. وَلَوْ كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّ تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ لَهَانَ الْأَمْرُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَتَّحِدُوا مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْذُرُونَهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا هَذَا التَّفَرُّقَ وَلَا يَتَعَادُّوا هَذَا التَّعَادِيَ اللَّذَيْنِ أَضْعَفَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَمَزَّقَا مُلْكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، حَتَّى اسْتَذَلَّ الْأَجَانِبُ أَكْثَرَ أَهْلِهِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يُشْغِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَادِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّنَازُعِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَيُؤَلِّفُونَ الْكُتُبَ وَالرَّسَائِلَ فِي الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ. وَيَالَيْتَهُمْ يَطْلُبُونَ إِعَادَةَ الْخِلَافَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَتَجْدِيدَهَا؛ لِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ وَإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ آلَ عَلِيٍّ أَصَحُّ بُطُونِ قُرَيْشٍ أَنْسَابًا. وَأَكْرَمُهَا أَحْسَابًا، وَأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ تَجْتَمِعُ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِهَا وَيَرْضَاهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. كَلَّا إِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ تَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ وَإِقَامَتِهِ بِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُونَهُ مَعَهُمْ، فَلْيَكْتَفُوا بِهَذَا وَيَكُفُّوا عَنْ تَأْلِيفِ الْكُتُبِ فِي الطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَبِحَمَلَةِ السُّنَّةِ وَحُفَّاظِهَا الْأَعْلَامِ، وَإِثَارَةِ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، الَّتِي لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى غُلَاتِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ، طَمَعًا فِي الْجَاهِ الْبَاطِلِ وَالْحُطَامِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْحَقِيقِيَّةُ لِلْأَجَانِبِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ شِيعَةَ الْأَعَاجِمِ فِي إِيرَانَ قَدْ شَعَرُوا بِضَرَرِ الْغُلُوِّ، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ دُونَ شِيعَةِ الْعَرَبِ فِي الْعِرَاقِ وَسُورِيَةَ فَقَدْ بَلَغَنَا عَنْهُمْ مَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِهِ خَيْرَ قُدْوَةٍ لَهُمْ وَاللهُ الْمُوَفِّقُ.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
رُوِيَ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ نَزَلَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ بِهَذَا نَقْلٌ، وَلَا يَقْبَلْهُ فَهْمٌ وَلَا عَقْلٌ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ أَوَّلَهُ خِطَابُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يُسَوِّغُهُ وَمَا يَنْتَهِي بِهِ مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَيَتْلُوهُ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِمُ التَّثَاقُلَ عَنِ النَّفْرِ إِذِ اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ سِيَاقٌ مُسْتَقِلٌّ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ كُلَّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا قِيلَ مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي آخِرِهَا. فَإِنْ صَحَّ أَنَّ شَيْئًا نَزَلَ مِنْهَا قَبْلَ السَّفَرِ فَهَذَا السِّيَاقُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ لَا هَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّ أَكْثَرَهُ نَزَلَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ، وَمِنْهُ مَا نَزَلَ بَعْدَهُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ.
وَأَمَّا وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَبَّخَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّثَاقُلِ عَنِ النَّفْرِ لَمَّا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حُكْمِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، الَّذِي يُوجِبُ الْقِتَالَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْإِقْدَامِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَقَالَ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الْخِفَافُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ خَفِيفٍ وَالثِّقَالُ جَمْعُ ثَقِيلٍ. وَالْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يَكُونَانِ بِالْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَنَحَافَةٍ وَسِمْنٍ، وَشَبَابٍ وَكِبَرٍ، وَنَشَاطٍ وَكَسَلٍ، وَيَكُونَانِ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَحْوَالِ، كَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالْعِيَالِ. وَوُجُودِ الظَّهْرِ (الرَّاحِلَةِ) وَعَدَمِهِ، وَثُبُوتِ الشَّوَاغِلِ وَانْتِفَائِهَا. فَإِذَا أُعْلِنَ النَّفِيرُ الْعَامُّ، وَجَبَ الِامْتِثَالُ إِلَّا فِي حَالِ الْعَجْزِ التَّامِّ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ 91 مِنْ هَذَا السِّيَاقِ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ، وَعُذْرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَسَتَأْتِي. وَمَا وَرَدَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخِفَافِ وَالثِّقَالِ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ فَهُوَ لِلتَّمْثِيلِ لَا لِلْحَصْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مُوسِرِينَ وَمُعْسِرِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ، أَيْ: مُقِلِّينَ مِنْهُ، وَثِقَالًا بِهِ أَيْ: مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَأَبُو صَالِحٍ: فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي مَعْنَاهُ: الثَّقِيلُ الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ يَكْرَهُ أَنْ يَدَعَ ضَيْعَتَهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَشَاغِيلَ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ.
وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ فِي إِرَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ قَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ- وَقَدْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا غَزْوَةً وَاحِدَةً: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فَلَا أَجِدُنِي إِلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحَرَّانِيِّ قَالَ: وَافَيْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَارِسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا عَلَى تَابُوتٍ مِنْ تَوَابِيتِ الصَّيَارِفَةِ بِحِمْصَ- وَقَدْ فَضَلَ عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ- يُرِيدُ الْغَزْوَ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: أَبَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبُعُوثِ- يَعْنِي بَرَاءَةٌ- انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَرُوِيَ عَنْ حَيَّانَ بْنِ زَيْدٍ الْشَرَعْبِيِّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو- وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ- قِبَلَ الْأَفْسُوسِ إِلَى الْجَرَاجِمَةِ فَرَأَيْتُ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ. مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِيمَنْ أَغَارَ، فَقُلْتُ: يَا عَمُّ قَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ عَنْ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي اسْتَنْفَرَنَا اللهُ خِفَافًا وَثِقَالًا، أَلَا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللهُ يَبْتَلِيهِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ صَبَرَ وَشَكَرَ وَذَكَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
أَقُولُ: بِمِثْلِ هَذَا الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فَتَحَ سَلَفُنَا الْبِلَادَ، وَسَادُوا الْعِبَادَ، وَكَانُوا خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ جِلْدَتِهِمْ، وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ. وَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنْ شُعُوبِ أُمَّتِنَا حَظٌّ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا تَغَنَّى بَعْضُهُمْ بِتِلَاوَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَاشْتِغَالِ آخَرِينَ بِإِعْرَابِ جُمَلِهِ، وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَأَسَالِيبِهِ، مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا فِقْهٍ فِيهَا، وَلَا فِكْرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَا أُوْدِعَ مِنَ الْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ فِي مَطَاوِيهَا، فَهُمْ يَتَشَدَّقُونَ بِأَنَّ: 30 خِفَافًا وَثِقَالًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ، وَلَا يُرْشِدُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا غَيْرَهُمْ إِلَى مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى ذِي الْحَالِ. وَقَدْ يَذْكُرُ مَنْ يُسَمَّى الْفَقِيهُ فِيهِمْ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (9: 122) وَهُوَ زَعْمٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ كَافَّةٌ، مِنْ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِير الثَّانِيَةِ. وَبِمِثْلِ هَذَا وَذَاكَ أَضَاعَ الْمُسْلِمُونَ مُلْكَهُمْ، وَصَارَ أَكْثَرُهُمْ عَبِيدًا لِأَعْدَائِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَجِبُ مِنْ هَذَا النَّفْرِ بِقَوْلِهِ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أَيْ: وَجَاهِدُوا أَعْدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، بِبَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ. فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِمَالِهِ وَبِنَفْسِهِ مَعًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِهِمَا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْهُمَا. كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُنْفِقُ كُلٌّ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَالِ بَذَلَ مِنْهُ فِي تَجْهِيزِ غَيْرِهِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ نَجْدٍ الْآنَ.
وَلَمَّا صَارَ بَيْتُ الْمَالِ غَنِيًّا بِكَثْرَةِ الْغَنَائِمِ صَارَ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ يُجَهِّزُونَ الْجَيْشَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَئِمَّةِ الْيَمَنِ يَدَّخِرُونَ الْمَالَ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، وَيُنْفِقُونَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ طُولَ السَّنَةِ؛ لِتَكُونَ مُسْتَعِدَّةً لِلْقِتَالِ كُلَّمَا اسْتُنْفِرَتْ لَهُ. وَالدُّوَلُ الْمُنَظَّمَةُ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ عَامٍ مَبْلَغًا مُعَيَّنًا مِنَ الْمَالِ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ لِلنَّفَقَاتِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَرِّيَّةٍ وَبَحْرِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ. وَإِذَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ يَزِيدُونَ فِي هَذِهِ الْمَبَالِغِ، وَيُجَدِّدُونَ لَهَا كَثِيرًا مِنَ الضَّرَائِبِ، بَلْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ أَمْوَالِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا وَمَرَافِقِهَا تَحْتَ نُفُوذِ قُوَّادِ الْحَرْبِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: ذَلِكُمُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ النَّفْرِ وَالْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مَرَامِي الْأُمَمِ حِفْظِ حَقِيقَتِهَا، وَعُلُوِّ كَلِمَتْهَا، وَتَقْرِيرِ سِيَاسَتِهَا- خَيْرٌ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، أَيْ: خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مُقَابِلِهِ، أَوْ خَيْرٌ مِنَ الْقُعُودِ وَالْبُخْلِ عَنْهُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَلَا حَيَاةَ لِلْأُمَمِ فِيهَا، وَلَا عِزَّ وَلَا سِيَادَةَ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ يُغْرِي الْأَعْدَاءَ بِالْقَاعِدِينَ الْعَاجِزِينَ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ يَجْلِبُ التَّعَبَ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا سَعَادَةَ فِيهَا إِلَّا لِمَنْ يَنْصُرُ الْحَقَّ، وَيُقِيمُ الْعَدْلَ، وَيَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ، وَيَتَخَلَّى عَنِ الرَّذَائِلِ، بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْعَمَلِ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْحَكِيمِ. وَلَا يُمْكِنُ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا بِاسْتِقْلَالِ الْأُمَّةِ بِنَفْسِهَا، وَقُدْرَتِهَا عَلَى حِفْظِ سِيَادَتِهَا وَسُلْطَانِهَا بِقُوَّتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَلَاسِيَّمَا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (8: 60) وَفِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِّيَّةَ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ عِلْمًا إِذْعَانِيًّا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَجَوَابُ «إِنْ» مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَيُقَدِّرُهُ بَعْضُهُمْ أَمْرًا بِالِامْتِثَالِ، أَيْ فَانْفِرُوا وَجَاهِدُوا. وَقَدْ عَلِمَ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةَ وَامْتَثَلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، وَاسْتَأْذَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّخَلُّفِ فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَى ضَعْفِ أَعْذَارِهِمْ، وَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُنَاسٌ آخَرُونَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي الْجَمِيعِ الْآيَاتِ الْآتِيَةَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}
كَانَ دَأْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَتُهُمْ إِذَا اسْتَنْفَرَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِلْقِتَالِ أَنْ يَنْفِرُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ تَثَاقَلُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِلتَّثَاقُلِ دَرَجَاتٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ، وَيُسْرِ الْأَسْبَابِ وَعُسْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْأَعْذَارِ وَقِلَّتِهَا، وَلَكِنْ نَفَرَ الْأَكْثَرُونَ طَائِعِينَ، وَتَخَلَّفَ الْأَقَلُّونَ عَاجِزِينَ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ فِيهِمُ الْخَطْبُ، وَطَفِقُوا يَنْتَحِلُونَ الْأَعْذَارَ الْوَاهِيَةَ، وَيَسْتَأْذِنُونَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا؛ لِبَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَأَحْكَامِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَهِيَ لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، كَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا مَنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ. وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّهُ يَضْطَرُّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصْرِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تَارِيخِهِ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى فَهْمِ مَا تَعَبَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيَعْرِفُوا نَشْأَةَ دِينِهِمْ، وَسِيَاسَةَ مِلَّتِهِمْ، وَصِفَةَ تَكْوِينِ أُمَّتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ أَعْوَنَ لِلْأُمَمِ عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا كَمَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
هذا المقطع من سياق السورة يرجح أنه نزل بعد الأمر بالنفير العام لغزوة تبوك. ذلك حين بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، وانضمت إليهم لخم وجدَام وعاملة وغسان من قبائل العرب. وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء من أعمال الشام. فاستنفر الناس إلى قتال الروم. وكان صلى الله عليه وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلى ورّى بغيرها مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة. فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الزمان. إذا كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبب إلى الناس المقام.. عندئذ بأدت تظهر في المجتمع المسلم تلك الأعراض التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. كما وجد المنافقون فرصتهم للتخذيل. فقالوا: لا تنفروا في الحر. وخوفوا الناس بعد الشقة، وحذروهم بأس الروم.. وكان لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة.. وهذا ما تعالجه هذه الفقرة..
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلاّ تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير.
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض}.
إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض.. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: {اثاقلتم}. وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: {اثاقلتم إلى الأرض}. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق.